
كتبت “البناء” تقول: في اليوم الثاني للحرب بدت موسكو أقرب لتحقيق الهدف الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو إعلان حياد أوكرانيا، فبينما حقق اليوم الأول تدمير البنية التحتية العسكرية للجيش الأوكراني التي تتيح له خوض حرب وتشكيل تهديد، وكان ذلك نصف أهداف الحرب، حمل اليوم الثاني للحرب سريعاً مؤشرات اقتراب موسكو من هدف الحياد مع الإعلان الذي صدر عن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي شاكياً تخلّي الحلفاء وترك بلاده وحيدة تواجه خطر الحرب طلباً لعضوية حلف لن تبصر الانضمام إليه وبحثاً عن سند لن تراه، مبدياً الاستعداد لمفاوضات مباشرة مع روسيا على مبدأ حياد أوكرانيا. ومع سيطرة القوات الروسية على النقاط الاستراتيجية الواقعة على جهات أوكرانيا الأربع شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وعلى مداخل العاصمة كييف، فتحت موسكو نافذة للتفاوض، مقترحة مينسك عاصمة روسيا البيضاء كمكان للمفاوضات، بينما دعا الرئيس بوتين الجيش الأوكرانيّ لتسلم المسؤوليّات بدلاً من الحكومة التي وصفها بحكومة المافيات والعصابات النازيّة وتجار المخدرات، ووضع وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف شروطاً تلبي مطالب الرئيس بوتين، هي حكومة تعبر عن التعددية الأوكرانيّة بما فيها ذوي الأصول الروسيّة، ونزع سلاح الجيش واجتثاث الجماعات النازيّة.
على المقلب الغربي، تواصلت بيانات التنديد بالموقف الروسي، واستمرت المباحثات بطبيعة العقوبات التي يمكن أن تردع موسكو، وتمخضت ساعات الاجتماعات عن عقوبات شخصية على الرئيس بوتين والوزير لافروف، اللذين أعلنت وزارة الخارجية الروسية أنهما لا يملكان أية حسابات في أية دولة أجنبية، بينما طلبت واشنطن تأجيل التصويت في مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار تقدمت به، معلوم مسبقاً أنه سيواجه بالفيتو الروسي ولن يبصر النور. وفي وقت لاحق بعد منتصف ليل أمس قامت واشنطن بتعديل مقترحها بحذف وضعه بصيغة قرار تحت الفصل السابع، ثم استبدال إدانة القرار الروسي بالعملية العسكرية بمجرد إبداء الأسف. أما في المداولات على العقوبات فدار النقاش على حرمان موسكو من استخدام نظام السويفت للمعاملات التجارية، وكانت “البناء” قد أشارت أمس إلى أنه نقطة توازن الرعب مقال تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا، وهذا ما أظهرته المناقشات التي انتهت إلى صرف النظر عن القرار.
في المواكبة الإقليميّة للحرب كان البارز الاتصال الذي أجراه الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مؤكداً فيه وقوف سورية الى جانب روسيا في تصدّيها لمشروع الفوضى الأميركية الهادفة لفرض الهيمنة وسياسة التدخلات. وأكد الرئيس الأسد أن ما يحصل اليوم هو تصحيح للتاريخ وإعادة التوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وأن الهيستيريا الغربية تأتي من أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطئ لصالح الفوضى التي لا يسعى إليها إلا الخارجون عن القانون، معتبراً أن روسيا اليوم لا تدافع عن نفسها فقط وإنما عن العالم وعن مبادئ العدل والإنسانيّة.
وقال الرئيس الأسد إن الدول الغربية تتحمل مسؤولية الفوضى والدماء نتيجة سياساتها التي تهدف للسيطرة على الشعوب، حيث إن هذه الدول تستخدم أساليبها القذرة لدعم الإرهابيين في سورية والنازيين في أوكرانيا وفي أماكن مختلفة من العالم، وشدّد على أن سورية تقف مع روسيا الاتحادية انطلاقاً من قناعتها بصوابية موقفها، ولأن مواجهة توسع الناتو هي حق لروسيا لأنه أصبح خطراً شاملاً على العالم وتحوّل إلى أداة لتحقيق السياسات غير المسؤولة للدول الغربية لضرب الاستقرار في العالم، وختم الأسد باعتبار أن العدو الذي يجابهه الجيشان السوري والروسي واحد ففي سورية هو تطرّف وفي أوكرانيا هو نازية، مشيراً إلى أن روسيا الاتحادية سوف تعطي درساً للعالم بأن الدول العظمى لا تكون عظمى بقوتها العسكرية فقط وإنما باحترام القانون والأخلاق العالية والمبادئ الإنسانية.
لبنانياً، كان الإحراج الكبير في موقف وزارة الخارجية الذي بقي لغزاً بلا تفسير، وسط احتجاج روسي على إنجاز لبناني مستغرب معاكس بمبدأ النأي بالنفس الذي تعلنه الحكومة اللبنانية، وكان سقف ما قاله وزير الخارجية عبدالله بو حبيب هو استهزاء بالانتقادات دون توضيح خلفيات الموقف، وحديث عن مسؤوليته الشخصية، ولبسه الدرع، ووصفه مواقف الرؤساء من بيان الخارجية بـ “أسرار الدولة” وبقي نقاش الحكومة بلا معنى طالما أنها تخلت عن مسؤوليتها في رسم السياسات واكتفى الوزراء بالدردشة حول الموضوع، بينما تساءلت مصادر سياسية عما إذا كانت هناك مساومات مع واشنطن تتصل بالعقوبات او بحسابات رئاسية، وقالت أليس مخجلاً أن يقوم لبنان بإدانة روسيا بينما تستبدل واشنطن في مشروع القرار الأممي الإدانة بإبداء الأسف الذي كان تضمينه للبيان اللبناني بدل الادانة كافياً لتجنيب لبنان الإحراج. واضافت نخشى ان يكون الموقف مجانياً أسوة بتقديم أوراق الاعتماد المتواصل دون طائل ودون جدوى لدول الخليج، واضافت أن الموقف الذي كان يليق بلبنان هو إبداء الأسف لتدهور الأوضاع وتأكيد التمسك بالحلول السلمية والدعوة للحوار ومبادئ القانون الدولي دون الدخول في التفاصيل ودعوة الأمم المتحدة للقيام بمسؤولياتها في السعي لحل سلمي قائم على التفاوض.
وفيما استمرّت الأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا لليوم الثاني على التوالي توازياً مع اجتياح الجيش الروسي للأراضي الأوكرانية ووصوله الى تخوم العاصمة كييف ومحاصرتها، اقتحمت التداعيات السياسية والاقتصادية العالم، ومن ضمنها لبنان الذي انقسم على نفسه على جري العادة أمام أية أزمة أو قضيّة دولية وإقليمية.
وقد أثار بيان وزارة الخارجية اللبنانية بإدانة العملية العسكرية الروسية، جملة ردود فعل مستنكرة ورافضة لانحياز لبنان مع أوكرانيا ضد روسيا وتهديد العلاقات مع موسكو بهدف استرضاء الأميركيين من دون مقابل.
استغربت مصادر سياسيّة موقف الخارجية اللبنانية التي تسرّعت باتخاذه نتيجة الرضوخ للضغوط الغربية والرهان على حصان خاسر، من دون تقييم وموازنة مصلحة لبنان وقراءة موازين القوى العسكرية والسياسية على الساحة الدوليّة. معتبرة أن بيان الخارجية يعكس اتباع سياسة الانحياز وإعلان الانضمام الى محور ضد الآخر ما يرتب تداعيات سلبية على لبنان وعلاقاته مع روسيا، علماً أن الحكومة خالفت وخرقت بيانها الوزاري الذي يؤكد على سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية والدولية والحياد عن المحاور. وحذرت المصادر من أن بعض الدول الاوروبية والأميركيين يعملون على توريط لبنان بالوقوف ضد روسيا، كما ورطوا الرئيس الاوكراني بحرب عسكرية مع روسيا ثم تخلوا عنه.
كما حذرت من دفع لبنان الى اتخاذ موقف في مجلس الامن الدولي ضد روسيا، ما سيدفع روسيا الى موقف مماثل ضد لبنان عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات الدولية، مذكرة بمواقف روسيا المؤيدة لمصلحة لبنان وسورية في مجلس الأمن الدولي ومنظمات الأمم المتحدة.
وغداة موقف الخارجية زار سفيرا فرنسا وألمانيا لدى لبنان وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب لشكر لبنان على البيان حول الأزمة الأوكرانية – الروسية، وتمنيا استمرار لبنان على موقفه هذا، وطلبا مشاركة لبنان في تبني القرار المقدّم أمام مجلس الأمن حول الأزمة والتصويت عليه في الجمعية العامة لاحقاً.
وأبلغ بوحبيب السفيرين أن “موقف لبنان ثابت ونابع من حرصه بالالتزام بمبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي التي تشكل الضمانة الأساسية لحماية السلم والانتظام الدوليين وسلامة أراضي الدول الصغيرة، خصوصاً أن لبنان عانى الأمرين من الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته المستمرة حتى اليوم”.
كما أبلغ الوزير السفيرين الألماني والفرنسي “امتناع لبنان عن المشاركة في تبني القرار المقدّم أمام مجلس الأمن وأنه ستتم دراسة الموقف اللبناني لناحية التصويت في حال إحالة القرار على الجمعية العامة بالتشاور مع المجموعة العربية”.
وفيما حاول بو حبيب التخفيف من حدّة بيان وزارته واسترضاء روسيا، متبعاً سياسة “اللعب على الحبلين” وبدل أن “يُكحّلها عماها”، إذ اعتبر وزير الخارجية اللبناني أن “الموقف اللبناني ليس موجهاً ضدّ روسيا الاتحادية أو أي دولة أخرى صديقة، وإنما موقف مبدئي وراسخ اتخذه وسيتخذه لبنان في كلّ أزمة مشابهة”. وأشار بو حبيب الى أنه التقى بالأمس سفير روسيا الاتحادية لدى لبنان وأعرب له عن أسفه وأن لبنان بصدد إصدار بيان إدانة للعملية العسكرية الروسية وأن “هذا الموقف غير موجّه ضدّ دولته ولا نرغب أن يؤثر على العلاقة الثنائية الوطيدة”.
موقف بو حبيب أثار استياء روسيا، حيث أعلنت سفارتها في لبنان، في بيان، أن البيان الذي صدر عن وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية “أثار الدهشة لدينا بمخالفتها سياسة النأي بالنفس واتخاذها طرفاً ضد طرف آخر في هذه الأحداث، علماً أن روسيا لم توفر جهداً في المساهمة بنهوض واستقرار الجمهورية اللبنانية”. وأوضحت السفارة أن “أساس سياسة روسيا الاتحادية ليس سياسة التعدي على المصالح الأوكرانية، بل حفظاً للأمن القومي الروسي بفعل التهديدات التي شكلتها حكومة كييف بعد تنصلها من تنفيذ العديد من الاتفاقيات ولا سيما اتفاقية مينسك”.
وأشار مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الروسية، النائب السابق امل ابو زيد، في تصريح على وسائل التواصل الاجتماعي، الى أنه “لم تكن وزارة الخارجية اللبنانية مضطرة لإصدار مثل هذا البيان حول روسيا، وكان الأفضل الالتزام بالنأي بالنفس وحصل تواصل معي من وزارة الخارجية الروسية، وسجلوا عتباً على بيان الخارجية اللبنانية وستكون لي زيارة الى موسكو لعقد اجتماع في الخارجية الروسية وسألتقي السفير الروسي في لبنان”.
وبعدما نقل عن عين التينة امتعاضها من بيان الخارجية، انتقد حزب الله البيان، وقال على لسان عضو كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب إبراهيم الموسوي: “ينأون بأنفسهم ويدَّعون الحياد حيث يشاؤون، ويتدخلون ويدينون أيضاً حيث يشاؤون، أمر عجيب غريب”، وسأل “أي سياسة خارجية يتبعها لبنان، وأين مصلحة لبنان في ذلك؟ تفضّل وزير خارجيتنا عبدالله بو حبيب، وأوضِح لنا الأمر”.
وعلمت “البناء” أن وزير العمل مصطفى بيرم قدم مداخلة من خارج الموضوع المخصص لجلسة مجلس الوزراء التي عقدت في قصر بعبدا أمس، منتقداً بيان وزارة الخارجية، مشيراً الى مخالفة البيان مبدأ الحياد الذي أعلنته الحكومة اللبنانية، معرباً عن اعتراضه حيال التفرد بقرارات الحكومة من قبل رئيس الحكومة ووزير الخارجية وتجاهل المكونات الأخرى وعدم التشاور معها، وبالتالي تحميل لبنان تبعات الدخول في مثل هذا النزاع ذي الأبعاد الخطيرة.
تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بنا